لن نتحدث هنا عن الوفاق الدولي ونتيجته الكبرى "النظام العالمي الجديد" من جميع جوانبه، وإنما سنعرض له من جهة علاقاته بالصحوة الإسلامية والمنطقة موضع الحديث.
وعليه سيكون عرضنا للموضوع في شكل متوازٍ أو متداخل بين القضيتين "الوفاق والصحوة" وإلى أي مدى يؤثر كل منهما في الآخر باعتبارها العنصر الجديد في المعادلة، ونصل من ذلك إلى معرفة ما إذا كان صدام قد فعل ما فعل صدفة أم استباقاً للأحداث أم ماذا؟.
  1. فكرة الوفاق الدولي

    إن فكرة الوفاق الدولي ليست وليدة العصر الحاضر "أي مؤتمر يالطا كما يُقال" بل هي نموذج معاصر للأحلاف الأوروبية في مطلع العصر الحديث "القرن 17 و18" هذا إن لم نقل إن أصلها هو التحالف الغربي الكبير في الحملات الصليبية الأولى.
    والواقع أن جوهر القضية في هذه التحالفات قديمها وحديثها واحد وهو: أن مصلحة الغرب تقتضي تناسي خلافاته الداخلية والتوحيد لمقاومة الخطر الخارجي الذي يُعَدُّ الإسلام رأس الحربة فيه، فقد تحالفت أوروبا المتناحرة ضد الدولة العثمانية فيما سُمي (الحلف المقدس) كما ظلت تركيا -رغم أنها دولة أوروبية من جهة الموقع- خارج الاتفاقيات الدولية الأوروبية إلى عهد قريب لسبب واحد هو أنها مسلمة، ومنذ أسابيع فقط سُئل الرئيس التركي أوزال عن سبب عدم قبول تركيا عضواً في الوحدة الأوروبية رغم أنها عضو في حلف الناتو فأجاب: بأن السبب هو أن الغرب لا يزال ينظر إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية!
    إن الحرب العالمية الأولى انتهت كما هو معلوم بالنقاط الأربعة عشر للرئيس الأمريكي "ولسُن" التي أصبحت أساس مبدأ عصبة الأمم، والتي بمقتضاها اتفق الغرب على وضع العالم الإسلامي تحت الوصاية الدولية -أي تحت السيطرة الغربية- مع أن الأجزاء المهمة منه كانت قد وضعت من قبل تحت سيطرة الغرب باسم "الحماية" ومنها: عدن، والكويت، ومشيخات الخليج، وبقيام الحرب العالمية الثانية انهارت عصبة الأمم كما انهارت القوة الاستعمارية التقليدية، وبرزت قوتان جديدتان هما: أمريكا وروسيا، وكان وفاق المنتصرين فيها المتمثل في مؤتمر يالطة، وفي التحكم في العالم من خلال الهيئة الدولية الجديدة "هيئة الأمم المتحدة" إذ احتفظ الطواغيت الكبار بحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي كما يسمى!!
    وكان أيضاً التنافس الحاد بين القوتين في السيطرة على العالم وخاصة المناطق الحيوية منه. (ومنها -بالطبع- العالم الإسلامي الذي تفككت مجتمعاته ودوله ومنظماته مِزَعاً بحسب التبعية لأي من المعسكرين)، وكان السباق الهائل على امتلاك أشد الأسلحة فتكاً ودماراً لكن دون مواجهة عسكرية شاملة، وهذه هي المرحلة التي سميت "مرحلة الحرب الباردة".
    وقد حدثت أزمات كثيرة كادت أن تجعلها ساخنة "مثل أزمة كوبا" إلا أن التفكير في الوفاق واقتسام مناطق النفوذ ظل ينمو باستمرار وخاصة من الجانب الأمريكي الذي كان يعلم أن القوة العسكرية هي كل ما يملكه الخصم من أسباب القوة.
    وعندما برزت الصين لتكون القوة الثالثة في العالم سارعت أمريكا إلى مد الجسور إليها وكان الوفاق السريع بينهما الذي قسم الكتلة الشيوعية، وكان الرئيس نيكسون مهندسه وبوش سفيراً له فيها.
    ولأسباب يطول ذكرها أظهرت كل من القوتين استجابة أكثر للوفاق، ودارت المفاوضات الطويلة ببطء وكانت نتائجها محدودة، غير أن المفاجأة الكبرى حدثت في السنوات الأخيرة فقط حيث ظهر للعالم كله أن الغرب قد أعد العُدَّة لوضع كوني جديد، وأنه سائر في طريق تنفيذه بسرعة مذهلة، وقد تجلت مظاهر هذا الوفاق في الخطوات العُجلى لتوحيد أوروبا الغربية في دولة واحدة سكانها 325 مليوناً مع التمهيد لتوحيد أوروبا كلها ومنها روسيا وكتلتها وهو ما يُطالب به جورباتشوف نفسه ابتداءً بتوحيد شطري ألمانيا، وصار من المتوقع أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه 35 دولة أوروبية دولة واحدة، بل ربما أصبح لها مقعد واحد في مجلس الأمن والأمم المتحدة!!
    وستكون لهذه الدولة أقوى الروابط بـالولايات المتحدة الأمريكية التي تبارك هذا التوحد وتطمح من خلاله إلى زعامة الغرب كله، فمن المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة تجمعاً غربياً يزيد سكانه على 1000 مليون نسمة، ويملك ما يزيد على (75%) من اقتصاديات العالم، أما قوته العسكرية فهي بمثابة غول هائل لا يفكر أحد في مقاومته!!
    - لقد تساقطت أنظمة المعسكر الشرقي كما يتساقط ورق الشجرة الجاف عند هبوب الرياح، وتهاوت صروح الأنظمة التسلطية في أكثر العالم، وبشكل درامي مثير تم الإعلان عن حل حلف وارسو، والسعي ليكون الغرب كله حلفاً واحداً نواته حلف الناتو، وبسرعة أيضاً سحبت القوات من أوروبا الوسطى وظهرت آثار ذلك سريعاً على العالم الثالث حيث شهدت كل مناطق الصراع النهاية نفسها أو هي في الطريق إليها (أنجولا، أثيوبيا، السلفادور، نيكاراجوا، كمبوديا، كوريا، لبنان، وأخيراً نذكر أفغانستان التي لها وضع متميز ومع ذلك فمن المتوقع أن تتم التسوية قريباً).
    والمشكلة الوحيدة التي لم تُحل هي مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، وليس ذلك لأن الوفاق أهملها أو تناساها فهي لب المشكلات ومحور القضايا كلها، ولكن لحساسيتها البالغة -كما يعبرون- ومن هنا اقتضى الأمر أن يكون الإخراج من نوع خاص جداً، كما سنرى.
    والشعار الذي يرفعه الوفاق الدولي للنظام الجديد هو "السلام" وإبعاد شبح الحروب عن العالم كله، وحل كل القضايا سلمياً عن طريق الأمم المتحدة، وتوظيف إمكانيات العالم الإقتصادية لرفاهية الشعوب، وضمان لقمة العيش بدلاً من تبذيرها على التسليح خاصة في العالم الثالث الجائع المَدِين!!
    لم يكن غريباً أن يسود تفاؤل كبير معظم أرجاء العالم، وأن تداعب الأحلام المعسولة أكثر الشعوب المنكوبة، إلا أن الساسة وكثيراً من المفكرين في العالم كانوا حذرين أو متشائمين من المستقبل المزعوم!!
    فقد أدرك كثيرون أن السلام القادم معناه '' بقاء القوي قوياً بدون تكاليف جديدة وإبقاء الضعيف ضعيفاً إلى الأبد بسد أي منفذ له ليكون قوياً ''.
    إن الوفاق الغربي لم يسقط من حسابه تلك القوى الإقليمية الصاعدة، بل حسب لها بكل دقة وهو موقن أن سيطرته الأبدية لن تتم إلا بإجهاض هذه القوى، ولكن كيف يتم ذلك؟ هذا هو لب المشكلة! ولوعرفنا ذلك لعرفنا إلى أين ستنتقل القوات المسحوبة من أوروبا وأين ستتحول القواعد المغلقة في خطوط المواجهة والصراع بين الحلفين المندمجين.
    لا شك أن من بين القوى التي يحسب الغرب حسابها "الصين واليابان والهند وكوريا واستراليا" ولكن ما مدى خطورة هذه الدول على الغرب، وبعبارة أخرى: أليس من الممكن استدراجها للانضمام إلى التحالف الغربي وإعطاؤها مكاسب محدودة؟
    وإذا كان هذا الأمر وارداً بل واقعاً فأين هي إذاً القوى المتوقع تمردها ونفوذها؟
    وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من التنبيه إلى معادلة مهمة وهي:
    إنه إذا كان بديهياً أن مصدر قوة الغرب وغيره هو امتلاك السلاح النووي، فإن هذا هو أيضاً مصدر مشكلة الغرب تجاه القوى الإقليمية....!!
    أي: أن القوى النووية بقدر ما تردع العدو عن مهاجمة صاحبها، تردع صاحبها أيضاً عن استعمالها، وهكذا تم الوفاق الغربي في ظل التكافؤ في تملكها، أما حين تدور المعركة بين طرفين أحدهما نووي والآخر مغامر من العالم الثالث؛ فإن الحسم سيكون لصالح الأقدر منهما على استخدام الأسلحة التقليدية والأكثر عزماً وتدريباً... إلخ، لأن اللجوء إلى الخيار النووي هو بمثابة انحدار علمي!!
    قد لا تكون هذه المعادلة صادقة (100%) ولكنها حق إلى حد كبير، ومن هنا لم يخف الغرب أن أخطر ما يواجهه هي القوى الإقليمية ذات التسلح التقليدي الكبير وخاصة إذا حكمتها زعامات متطرفة ذات طموح عال، أو عداوة تاريخية للغرب!!
  2. أخطر منافس لمستقبل الغرب

    وعندما يتحدث الغرب بصراحة أكثر يقول: ''إن أخطر منطقة تواجهه هي منطقة الشرق الأوسط، وإن أخطر منافس لمستقبله هو الصحوة الإسلامية، وهنا نأتي على بعض الشواهد التي نجتاز منها إلى إرهاصات الأزمة الحالية''
    فعن موضوع نظرة الشرق والغرب إلى المنطقة بعد سقوط "يالطا" وعقد قمة "مالطا" كتب أحد المحللين في جريدة الحياة بتاريخ الاثنين 9/3/1990م فكان مما قال:
    ''الانتقال من يالطا إلى مالطا بدأ يكون متجمعاً دولياً، أخذ يوماً بعد يوم يستكمل ملامحه الجديدة... ولكن من خلال الابتهاج بالاتجاه إلى نزع التسلح والأمل بعدم اللجوء إلى النزاع المسلح، هناك أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب، ومن هذه الأسئلة مثلاً: ما هي وظيفة الجيوش في المستقبل؟ وما هي الأخطار التي يتوقعها الشرق والغرب؟''.
    وللإجابة على الأسئلة نقل الكاتب إجابة رئيس الأركان الفرنسي لإحدى المجلات: ''والسؤال هو: "سيدي الجنرال: تقولون بأن الأوضاع تتطور بسرعة جنونية فهل يُحتمل أن يكتشف الغرب والشرق خلال العشرين عاماً القادمة أعداء آخرين من خارج أنفسهم؟''
    وهذا هو جواب الجنرال: عندما افتتح المسيو -شيفارنادزه- وزير خارجية الاتحاد السوفييتي ندوة فيينا في مارس 1989م قال ما نصه: ''يجب علينا من خلال مناقشاتنا أن ننظر بعين الحذر إلى أمر واقع، وهو أنه في جنوبي أوروبا وفي الجنوب الغربي من آسيا توجد قدرات عسكرية يمكن أن تصبح أعظم من قدراتنا اهـ''
    ''إنني - المتكلم هو الجنرال الفرنسي- أشاركه وجهة نظره هذه، إن ابتهاج الشرق والغرب بالاتجاه نحو نزع التسلح لا يجب أن يجعلنا نتغاضى عن الأخطار في وقت من الأوقات أن تأتي من تلك المناطق، إن الأوضاع الراهنة في إيران، العراق، سوريا، الأردن، إسرائيل، مصر، ليبيا، لا توحي بالاطمئنان، وبكل أسف فإن الأخطار تبدو الآن وكأنها جديرة بالإهمال لا يؤبه لها، ولكننا في الشرق والغرب قدمنا لهذه الدول السلاح والتكنولوجيا والتقنيين مما جعلهم يتعلمون النتائج بأنفسهم.
    إنني أعتقد بأن هذه البلاد ستشكل عنصر عدم الاستقرار، إنها جميعاً تتمتع بالقدرة على التوسع الديمغرافي (زيادة عدد السكان) وتعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، والديانة تجنح إلى التطرف، كل ذلك يضاف إلى قدرات عسكرية بالغة الخطورة ولا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الأخطار''
    وفي عدد آخر بتاريخ 21/12/1410هـ يقول كاتب آخر، هو مدير المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل بـالقاهرة عن تحديات أوروبا:
    ''يتزايد القلق في أوروبا الغربية وجنوب أوروبا بشكل خاص وفرنسا تحديداً من تطور يطلقون عليه المد الإسلامي، وتطور آخر يسمونه التغيير الديمغرافي والتطوران حادثان في شمال أفريقيا''
    وهنا نذكر بأن هذا الكلام قيل خلال الحديث الغربي عن تصنيع عسكري قامت به مصر والعراق بمساعدة الأرجنتين، وأفاد من الفخر الأحمق الذي كان صدام يعلنه، والاستعراضات العسكرية، والإعلان عن قدرات عسكرية مبالغ فيها مع التهديدات الكاذبة بحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج، وصاحبه أيضاً الحملة على مصنع الدواء في ليبيا، فالسلاح الكيماوي هو بديل المستضعفين عن السلاح النووي، وفي الوقت نفسه حدثت تطورات أخرى أشار إليها هؤلاء، وستؤكدها النقول الآتية، وهي بعض فرص النجاح التي حظيت بها الصحوة الإسلامية المعاصرة، ومن أبرزها:
    1- ظهور حركة الجهاد أو التمرد الفلسطينية التي قلبت المعايير والخطط رأساً على عقب.
    2- تحقيق انتصارات عسكرية في أفغانستان، وظهور حركات جهادية مماثلة في إرتيريا وكشمير وغيرها.
    3- فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، وتمكن الجبهة القومية في السودان، وحصول الإسلاميين على نسبة من المقاعد في الأردن، وظهور مؤشرات مهمة في بلدان أخرى، والغرب يحسب حساباته على المدى البعيد جداً.
  3. وظيفة الجيوش الغربية في ظل الوفاق الدولي

    وعليه نعود الآن للإجابة على السؤال نفسه: ما وظيفة الجيوش الغربية في ظل الوفاق، ولكن من وجهة النظر الأمريكية؟!
    نشرت جريدة الحياة في 26/12/1410هـ أي قبل غزو الكويت بحوالي 17 يوماً فقط موضوعاً بالغ الأهمية بعنوان كبير هو: (وظيفة جديدة للقواعد بعد تحول دورها من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط!) ومنه:
    (وفي نظر جميع المراقبين والمحللين فإن منطقة الشرق الأوسط تأتي في مقدمة المناطق العالمية التي تزداد أهميتها وترتفع سخونتها، وهي مرشحة إلى أن تكون منطقة اصطدام واحتكاك مع أمريكا...).
    وعلى هذا تحولت القواعد الأمريكية في جزيرة كريت من موقع المراقبة والرصد لدول حلف وارسو سابقاً إلى مراقبة دول الشرق الأوسط وضفاف المتوسط الجنوبية التي تموج بمختلف التفاعلات والتطورات الحادة، وتنذر باضطرابات وانفجارات عنيفة، لذلك لم تتضاءل أبداً أهمية هذه القواعد، بل ربما زادت بسبب القرب الجغرافي من الهدف الجديد، وقلة القواعد الموجهة نحو الشرق الأوسط والخليج عموماً وشمالأفريقيا خصوصاً...
    ولما كان هذا الموضوع كتب تعليقاً على الاتفاقية الجديدة بين أمريكا واليونان بشأن قاعدة كريت تعرضت الجريدة للآراء المعارضة والمحللة فقالت: '' أما البيان الذي أصدره تحالف اليسار المعارض فقد قال: إن الاتفاقية الجديدة ستجعل من اليونان طرفاً مباشراً في المخططات الحربية الأمريكية ضد الدول العربية، وحذر من ردود فعل الدول العربية على اليونان!! ''.
    ووقف المحللون عند بند جديد يتضمن السماح "لأي طيران حربي آخر باستخدام القواعد بموافقة أمريكا فقط"، وقالوا: إن هذا إشارة إلى الطيران الإسرائيلي!!
    "ورأى المحللون العسكريون اليونانيون أيضاً... أن الاتفاقية تعني حق أمريكا في استخدام كريت من قِبَل قوات التدخل السريع التي شُكِّلت لحماية منابع النفط" ا هـ.
    كما نشرت مجلة الأمل في عدد ذي الحجة 1410هـ مقالاً بعنوان "إلى أين ستذهب الأسلحة التي كانت تُصنع لحساب أوروبا، وذكرت منها مثلاً 930 دبابة من طراز إم60، وقالت: '' الإجابة سهلة في واشنطن حالياً هي أن تُرسل هذه الأسلحة إلى العالم الثالث وبخاصة إلى الشرق الأوسط ''.
    وفي هذا المسار نشرت مجلة البلاغ الإسلامية الكويتية في 16 ذي الحجة 1410هـ -أي قبل الغزو بحوالي 25 يوماً- مقالاً مؤثراً بعنوان: هل انتهت الحروب الصليبية؟
    قالت فيه: '' اليوم تتوالى الأخبار التي يخيل للسامع أنها ليست إلا بيانات عسكرية في معركة طاحنة تدور رحاها بصمت عجيب ''.
    وتعرضت فيه للفكرة التي طُرحت في الغرب ونشرت عنها الفايننشال تايمز وهي: إقامة عمود دفاعي أوروبي ضد العالم الإسلامي!
    بل نشرت الصحافة الأمريكية أن دول البلقان مثل: اليونان وبلغاريا قد تصبح '' دول مواجهة في أوروبا ضد انتشار التطرف الإسلامي ''.
    وأنذرت صحافة أمريكا عدوها النووي "الاتحاد السوفييتي" باحتمال وقوع الأسلحة الذرية في الجمهوريات الإسلامية السوفيتية في أيدي متطرفين مسلمين، وأن ذلك يعتبر تهديداً خاصاً للبشرية والعالم المتمدن .
    وقالت: '' إن المتطرف يأتي من الصحراء والمبدع يأتي من الغابات، وربما كان هذا هو الفارق الأكبر بين الشرق والغرب ''.
    وقد علَّق المحامي الأمريكي الذي أورد هذه النصوص بعنوان "إعلام أمريكا وخطر المسلمين" قائلاً:
    ''بالترويج لخطر المسلمين لا بالنسبة إلى الدول الغربية فحسب، بل حتى إلى الاتحاد السوفييتي يرى المرء تقارباً بين مصالح الأعداء القدامى الذين كانوا يشتبكون في الحرب الباردة، ويُحتمل أن تتردد القضية الجديدة عن الخطر الإسلامي على العالم المتمدن أكثر فأكثر في المستقبل ''.
    وفي الوقت نفسه جرى الإعلان أيضاً عن وظيفة جديدة للمخابرات الأمريكية في ظل الوفاق (وهي قديمة في الواقع) فقد أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية في برنامج عالم الظهيرة في أواخر ذي القعدة الماضي ما نصه تقريباً:
    '' إن الجهد الرئيسي للمخابرات الأمريكية الذي كان منصباً لمراقبة إمبراطورية الشر -يعني الاتحاد السوفييتي- سيتجه أساساً لمراقبة الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي ووضع العقبات والعراقيل أمامها ''.
    وأذاعت تعليقاً لـصحيفة الفايننشال تايمز قالت فيه:
    '' إذا كانت أمريكا تشجع الاتجاهات الديمقراطية في شرق أوروبا ودول العالم الثالث؛ فإنه يجب عليها ألاَّ تشجع تلك الاتجاهات في العالم الإسلامي؛ لأنها بذلك تدفع -دون أن تدري- بالأصوليين إلى تسلم زمام السلطة في ذلك العالم!!'' .
    وفي أثناء الإعلانات والشعارات المعسولة عن السلام العالمي القريب وحرية الشعوب في الحرية والاستقلال والديمقراطية... إلخ. فجَّر الرئيس ميتران قنبلة صليبية مذهلة حين قال: '' إذا نجح الأصوليون في حكم الجزائر فسوف أتدخل عسكرياً كما تدخل بوش في بنما !! " .
    والواقع أن مثار الذهول ليس مجرد تهديد بالتدخل فقد تدخلت فرنسا فعلاً في دول كثيرة منها: "زائير، ووسط أفريقيا، وساحل العاج، وتشاد، والجابون" ولكنه في الجراءة على إعلان بعض مخططات الغرب السرية وإشهار الحرب الصليبية الذي يزيد الصحوة الإسلامية اشتعالاً، ومن هنا كان تراجع ميتران الحاد في موقفه؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من التصريح بأن '' الانتفاضة الفلسطينية خطر يهدد المنطقة كلها بوباء التطرف ''.
    وفي هذا المسار تأتي تصريحات ميتران وغيره من المسئولين الفرنسيين في معرض الدفاع عن الموقف الفرنسي المؤيد للعراق، وهي تصريحات متكررة مضمونها: إننا كنا نساعده لأنه يحارب الأصولية الإسلامية التي تمثل تحدياً أكبر لمصالحنا.
    وقد ورد عن مسئوليين أمريكيين قبل الأزمة الحالية قولهم:
    إن أمريكا ترى في العراق عاملاً قوياً في صد التوسع الإسلامي في المنطقة (إذاعة صوت أمريكا).
    وفي غمرة هذه الإعلانات والتصريحات التي اجتاحت الإعلام الغربي في الشهور الأخيرة جاء الحديث المكشوف لـالأمير حسن ولي عهد الأردن، أعلن الأردن لصحيفة نيويورك تايمز الذي قال فيه:
    '' إنه ينبغي إجراء محادثات بين المعتدلين العرب والإسرائيليين؛ لأن الخطر الحقيقي للسلام يكمن في تنامي الأصوليين، وقال: إن العدو الحقيقي هو تصاعد الأصوليين والتطرف حيث المتطرفون اليهود من جهة والمد الإسلامي الذي يؤثر على السياسات الممتدة من عبر أفغانستان ولبنان وشمال أفريقيا، وقال: (يتصاعد نشاط المتطرفين في الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ".
  4. الغرب وإعداد العدة

    أصحاب الفضيلة:
    لا نريد التطويل وإلا فالشواهد كثيرة جداً، غير أنه لا بد من التنويه بظاهرة جديدة في السياسة الغربية تدل على أن الغرب يعد العدة لأمر عظيم، وهي استنفار كل ذوي الخبرات السابقة في الميدان السياسي أو العسكري أو الفكري لإحكام خطة الوفاق، ودراسة الاحتمالات بكل دقة، وبذل الجهود في أكثر من سبيل للوصول إلى فرض السيطرة الغربية الكاملة على العالم الإسلامي واستئصال الصحوة الإسلامية.
    أقول هذا عندما رأيت الحشد الكبير من الساسة القدامى والجنرالات المتقاعدين والسفراء السابقين ورجال الاستخبارات وقادة الفكر وعلماء النفس والاجتماع... إلخ كلهم يتحدثون عن مستقبل الغرب وصراعه مع الإسلام، بل يقومون بجهود عملية مكشوفة لم يشهد تاريخهم المعاصر من قبل مثلها.
    ورغبة في الاختصار أضرب مثلاً فقط بالرئيسين الأمريكيين السابقين ريتشارد نيسكون وجيمي كارتر وبنـزر يسير من جهودهما:
    1- نيكسون: له نشاط تنظيري استراتيجي بارز، وخاصة فيما يتعلق بالوفاق ومستقبل أمريكا والغرب، يدل على ذلك كتابه الضخم "1999 نصر بلا حرب" وبحوثه الأخرى ومشاركاته المباشرة كما حدث أثناء زيارة جورباتشوف الأخيرة واشنطن.
    وهو مع تحذيره وتهويله من الاتحاد السوفييتي عامة وشخصية جورباتشوف خاصة، .أطلق سنة 1985م- أي سنة تولي جورباتشوف- صيحة صليبية نشرتها مجلة استراتيجية متخصصة هي مجلة الشئون الخارجية قال فيها: '' يجب على روسيا وأمريكا أن تعقدا تعاوناً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية ''.
    وفي كتابه المذكور يؤكد نيكسون بكل صراحة وجراءة أن واجب الولايات المتحدة الأمريكية ورسالتها في الحياة هي زعامة العالم الحر الذي يجب بدوره أن يتزعم العالم، وأن الوسيلة الوحيدة لهذه الزعامة هي القوة، وأن العدو الأكبر في العالم الثالث هو الأصولية الإسلامية، ويؤكد ذلك قائلاً:
    '' إن مأساة فيتنام قد جرحت كبرياء أمريكا ولم يكن ذلك راجعاً إلى أننا ذهبنا إلى هناك بل أننا خسرنا.
    ويؤكد: لكن الكبرياء القومي الذي لا يتطلب من خلال المعارك كبرياء عقيم... إن الكبرياء الحقيقي لا يأتي من تفادي النزاع، بل يأتي من أن نكون في معمعته نحارب من أجل مبادئنا ومصالحنا وأصدقائنا.
    ومن أجل بناء ثقة جديدة ودائمة في الولايات المتحدة الأمريكية بين الأمريكيين أنفسهم وبين أصدقائنا وحلفائنا في الخارج؛ فإن الأمر يقتضي ما هو أكثر من القيام بعدد غير قليل من المهام العسكرية الناجحة وإن كانت صغيرة نسبياً مثل غزو جرينادا، وشن الغارات على ليبيا '' .
    ويسخر نيكسون من دعاة السلام قائلاً:
    ''يؤمن كثير من هؤلاء الذين يندفعون في الشوارع رافعين اللافتات الداعية إلى السلام ونزع السلاح الشامل بأن الحل الوحيد لتجنب خطر الحرب هو إقامة نظام عالمي ترعاه منظمة دولية.
    لقد دحض القرن العشرون كثيراً من الأساطير، لكن ليس هناك أشد تدميراً من الفكرة القائمة على التمني القائلة بأن المنظمات الدولية يمكن أن تحقق السلام الكامل'' (ص:30).
    '' ففي عالم الواقع يتوافر لأُمَّة بالغة الصغر لديها ستة دبابات أو ستة إرهابيين وضعاء لديهم قنبلة صغيرة قدر من القوة الحقيقية يزيد عما للجمعية العامة للأمم المتحدة مجتمعة بكل أبهتها الرفيعة في أيست ريفر.
    إن القوة هي التي تدفع العالم صوب الخير أو الشر، ولن تتخلى أية أمة ذات سيادة عن أي من سلطاتها وقوتها للأمم المتحدة أو أي هيئة أخرى لا الآن ولا في أي وقت.
    وكلما سارعنا لمواجهة هذه الحقيقة وسارعت شعوب الأمم العظمى خاصة في الغرب بالكف عن الإحساس بالذنب لأنهم أقوياء؛ سارعنا بإقامة نظام دولي حقيقي...'' (ص: 31).
    ويقول عن منطقة الخليج:
    ''إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الآن الدولة الوحيدة التي يمكنها حماية المصالح الغربية في الخليج الفارسي، وليس هناك أي دولة من دول الخليج الموالية للغرب قوية بالقدر الكافي للقيام بذلك، كما لا تتوافر لأي من حلفائنا الأوربيين القوة أو الرغبة في أن يقوم بذلك...
    '' وينبغي لنا أن نعمل على الجبهة العسكرية لتحسين قدرتنا على إبراز القوة الأمريكية في الخليج، وقد حققنا تقدماً هاماً في هذا المجال، فقد أنشأ الرئيس كارتر قوة الانتشار السريع، وعزز الرئيس ريجان وضعها بتحويلها إلى قيادة مركزية، واعتمد الكونجرس مليارات الدولارات لقوتها".
    وبعد أن بين أن الهدف هو أن تكون قادرة على دفع أربعة فرق من قواتنا في الخليج خلال ثلاثين يوماً، قال: ''إننا لا نستطيع أن ندافع عن مصالحنا في الخليج، أو نرد أي تحرك سوفيتي ضدها؛ إذا لم نستطع إرسال قواتنا إلى هناك، وينبغي لنا أيضاً أن نعمل على الجبهة الدبلوماسية لتشكيل روابط أوثق مع بلدان المنطقة ''
    '' ويستحيل على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتدخل في الخليج الفارسي بدون أن تتوفر لها إمكانية الحصول على قواعد جوية في المملكة العربية السعودية والخليج الأخرى الأصغر، إننا في حاجة إلى وضع قوات جوية في قواعد هناك حتى يمكن أن نحمي قواتنا البرية عند قيامها بإنشاء رأس جسر، وبدون تفوق جوي ستصبح أي عملية إنزال أمريكية في الخليج الفارسي تكراراً لعملية الإنزال البريطانية في غاليبولي أثناء الحرب العالمية الأولى ''.
    ''فبالنسبة لأصدقائنا في المنطقة تعتبر إيران تحت حكم الخميني تهديداً يفوق في خطورته حتى الاتحاد السوفييتي، لذلك يجب أن نؤكد لهم أن عملية إيران الفاشلة كانت انحرافاً لن يتكرر (يعني عملية استنقاذ الرهائن) وينتقد بشدة (المفهوم الذي شجعه المرشحون الليبراليون للرئاسة عام 1984م، وهم يعدون بعدم إرسال قوات أمريكية للقتال في الخليج الفارسي.
    إن أي شخص يصدر عنه هذا النوع من التعهد بعدم اللجوء للقوة في عام 1988م سوف يفقد صلاحيته لأن يكون محل تفكير كزعيم مسئول للولايات المتحدة وللعالم الحر'' ص:132- 133).
    هذا الكلام يوجهه نيكسون إلى المتنافسين على الرئاسة الأمريكية قبل ثلاث سنوات، ومعلوم أن الذي فاز فيها هو جورج بوش المعروف بانتمائه لخط نيكسون، كما في التعريف بالكتاب على الغلاف الأخير له.
    وعن إسرائيل والصحوة الإسلامية يقول نيكسون:
    ''وفي الشرق الأوسط نرى صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب، وإسرائيل والدول العربية المعتدلة من جانب آخر، وما لم تتغلب هذه الأمم على خلافاتها وتعترف بأنها تواجه تهديداً أشد خطراً بكثير من طهران فربما سيظل الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر احتمالاً للانفجار في العالم كله...'' : 284) أي كما قال ولي عهد الأردن.
    ويقول: ''لقد أمرت في حرب 1973 ببدء جسر جوي ضخم للمعدات والمواد التي مكنت إسرائيل من وقف تقدم سوريا ومصر على جبهتين، وكتبت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في مذكراتها خلال حرب يوم كيبور (الغفران) تقول: لقد كان الجسر له قيمة لا تقدَّر، فهو لم يرفع معنوياتنا فحسب، بل أفاد أيضاً في جعل موقف أمريكا واضحاً بالنسبة للاتحاد السوفييتي وساعد بلا شك في جعل انتصارنا أمراً ممكناً.
    إن التزامنا ببقاء إسرائيل التزام عميق، فنحن لسنا حلفاء رسميين وإنما يربطنا معاً شيء أقوى من أي قصاصة ورق، إنه التزام معنوي، إنه التزام لم يخل به أي رئيس في الماضي أبداً وسيفي به كل رئيس في المستقبل بإخلاص''
    وصدق الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [المائدة:51].
    إن أمريكا لن تسمح أبداً لأعداء إسرائيل الذين أقسموا على النيل منها بتحقيق أغراضهم.
    ويتابع نيكسون مفاخراً بإسرائيل كأشد يهودي في العالم تعصباً:
    ''لقد بهرت إسرائيل العالم كله بكل ما أنجزته خلال 40 عاماً من الحرب، وستدهش العالم بما تستطيع أن تنجزه في 40 سنة من السلام'' : 292).
    وينبغي أن نوجه لأنفسنا بعض الأسئلة عن بعض القضايا الأساسية:
    كم تستطيع الحكومتان المعتدلتان في الأردن ومصر أن تبقيا صامدتين في مواجهة التهديد المزدوج للنزعة الجذرية وللنزعة الأصولية في غياب حدوث تقدم في مسيرة السلام؟!
    كم ستظل هاتان الحكومتان راغبتين في انتهاج سياساتهما الحالية الموالية للغرب؟!
    ينبغي لإسرائيل أن تعترف بأن مصلحتها هي نفسها تقتضي أن تقيم الولايات المتحدة الأمريكية علاقات وثيقة مع الدول العربية المعتدلة وأن هذه الدول ستظل شريكاً مستقراً في السلام...
    لذا ينبغي للولايات المتحدة الأمريكية أن تتبنى سياسة أكثر واقعية في الشرق الأوسط، ينبغي لها أن تسعى لإقامة علاقات طيبة مع الدول العربية المعتدلة، خاصة الأردن ومصر والمملكة العربية السعودية، كما ينبغي لها أن تضغط بنشاط لدفع مسيرة السلام للأمام.
    إن سياستنا ينبغي أن تهتدي بملاحظة أبداها دافيد بنجوريون فقد قال:
    ''إن المتطرفين الذين نادوا بالاستحواذ على الأرض العربية سيحرمون إسرائيل من رسالتها...
    ولو نجحوا فلن تكون إسرائيل يهودية ولا ديمقراطية فالعرب سيفوقوننا عدداً، وسيقتضي الأمر إتخاذ إجراءات قمعية غير ديمقراطية للبقاء عليهم تحت السيطرة...
    وإن مصلحة إسرائيل تتطلب تسوية سلمية لقضية الأرض المحتلة في 1967م.
    فلو ضمت إسرائيل هذه الأرض فستصبح دولة لحامية عسكرية مكونة من قوميتين يشكل فيها العرب المحرومون من حقوقهم نحو نصف سكانها، وبالإضافة إلى ذلك ففي ضوء معدلات المواليد المرتفعة للشعب الفلسطيني سرعان ما يصبح الشعب اليهودي أقلية في الدولة اليهودية، ولو استمرت إسرائيل في احتلالها العسكري واستيطانها التدريجي لهذه الأراضي؛ فإنها ستوحد العالم العربي في النهاية في العداء لها، وتزيد فرص موسكو في دخول المنطقة أكثر من أي وقت مضى...
    إن من يبتعدون عن الخط المتشدد من بين أكثر مؤيدي إسرائيل تطرفاً لا ينبغي أن نصفهم بأنهم معادون لإسرائيل بصورة تلقائية، لقد حدث هذا بالنسبة لي ولأصدقاء آخرين لإسرائيل عندما أيدنا قيام إدارة ريجان ببيع طائرات الأواكس للمملكة العربية السعودية في 1981م وخططها لتوريد طائرات مقاتلة لـالأردن في 1986م، ينبغي للجميع أن يدركوا أن كون المرء صديقاً لجيران إسرائيل لا يجعل منه عدواً لها، ذلك أن مصلحة أمريكا وإسرائيل تقتضي أن ترتبط الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات الصداقة مع الدول العربية المعتدلة... (ص:294).
    وفي العالم الإسلامي من المغرب إلى إندونيسيا تخلف الأصولية الإسلامية محل الشيوعية باعتبارها الأداة الأساسية للتغيير العنيف... (ص:307).
    ويؤكد أن الرؤيا الثورية التي يقدمها الرديكاليون على أطراف العالم الإسلامي جذابة مثل الشيوعية تماماً ومدمرة مثلها أيضاً، إن الثورة الشيوعية تضرب على أوتار احتياجات الإنسان المادية، والثورة الإسلامية تضرب على أوتار الاحتياجات الروحية، فالإيديولوجية الشيوعية تَعِدُ بالتحديث السريع، والإيديولوجية الثورية الإسلامية هي رد فعل ضد التحديث، والشيوعية تَعِدُ بتدوير ساعة التاريخ للأمام والأصولية الإسلامية تعيدها للوراء.
    إن الثوريين الإسلاميين يدينون إلحاد الشرق الشيوعي والعلمانية المادية للغرب الرأسمالي...
    إن الثوريين الشيوعيين والإسلاميين أعداء إيديولوجيين يتبنون هدفاً مشتركاً: الرغبة في الحصول على السلطة بأي وسيلة ضرورية بغية فرض سيطرة دكتاتورية تقوم على مُثُلهم التي لا تحتمل، ولن تحقق أي من الثورتين حياة أفضل للشعوب في العالم الثالث.
    بل سيجعلون الأمور أسوأ، لكن إحداهما أو الأخرى ستسود ما لم يضع الغرب سياسة موحدة لمواجهة الأبعاد الاقتصادية والروحية على حد سواء للصراع الدائر الآن في العالم الثالث.
    إن رياح التغيير في العالم الثالث تكتسب قوة العاصفة، ونحن لا نستطيع إيقافها لكننا نستطيع أن نساعد في تغيير إتجاهها... (ص:307).
    ويتحول نيكسون في نهاية الكتاب وفي نهاية عمره من ذلك السياسي الانتهازي إلى قسيس متعصب، فيقول: ''لقد نهض بتأسيس أمريكا أفراد كانوا ينشدون الحرية الدينية، وأرادوا أن يكون لهم حق عبادة الله بطريقتهم الخاصة وأن يبحثوا عن معنى للحياة حسب شروطهم الخاصة، وعلينا ألا نغفل عن هذا المبدأ الموحي من مبادىء بلادنا، وعلينا ألا نسمح بمنافستنا مع موسكو بأن تنحدر فتصبح سباقاً بين الطرفين على أيهما يستطيع إنتاج أكبر عدد من القنابل، وأطول العمارات، وأعلى معدل للدخل الفردي من الناتج القومي الإجمالي، فإن كانت الثروة المادية هي هدفنا الوحيد لم نختلف في شيء عن الشيوعيين...
    والشيوعيون ينكرون وجود الله، ولكن ليس هناك من ينكر أن الشيوعية عقيدة، وفي اعتقادنا أنها عقيدة زائفة، ولكن الرد على العقيدة الزائفة لا يمكن أبداً أن يكمن في إنكار العقيدة، وعندما كانت أمريكا ضعيفة وفقيرة منذ مائتي سنة مضت كانت عقيدتنا هي المبقية علينا، وعلينا ونحن ندخل قرننا الثالث ونستقبل الألف سنة المقبلة أن نعيد اكتشاف عقيدتنا ونبث فيها الحيوية...'' :332).
    ''الحياة التي تقتصر على طائفة المقتنيات المادية هي حياة تعاني من الخواء. فلنتذكر حكمة الإنجيل القائلة: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان'' .
    2- جيمي كارتر: من المعلوم عن كارتر تدينه بل تعصبه لمذهبه الكنسي، وهذا ما ظهر عليه أثناء رئاسته ثم تحول بعدها إلى داعية دءوب يتنقل بين أفغانستان وأثيوبيا وإسرائيل وسوريا مروراً بـالسعودية وغيرها من دول الخليج حاملاً معه مشروعات كثيرة لوأد الجهاد الإسلامي والصحوة الإسلامية، وقد أفاد الرئيس بوش من خبرته ووظفها لصالح الوفاق الدولي، كما أفادت منه القوى اليهودية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي فضلاً عن إسرائيل، والمهمة التي يقوم بها كارتر من نوع خاص تتناسب مع اهتماماته الشخصية والتزامه الديني، ومضمونها استقطاب المعتدلين من الإسلاميين والإسرائيلين، وإيجاد تحالف سوري إسرائيلي تنضم له الدول العربية المعتدلة (كما تسمى)، وضرب المتطرفين من الإسلاميين، بالمعتدلين مع إقناع أو تحجيم المتطرفين من اليهود.
    نشرت جريدة الأنباء الكويتية قبل أقل من شهر من غزو الكويت مقالاً بعنوان:
    '' بعد التغييرات في أوروبا الشرقية وموسكو هل يستمر دور إسرائيل كحليف استراتيجي لـواشنطن؟ ''
    وهو مترجم عن مقال لأحد الكتاب الإسرائيليين المتخصصين في الشئون العربية أبرز فيه جانباً من مهمة كارتر، وهذه مقتطفات منه:
    '' إن إسرائيل القوية التي يقدم إليها الأمريكيون المساعدات هي نفس إسرائيل التي تضع العراقيل أمام استراتيجيتهم-الشرق أوسطية، وبالتالي فإن من المتوقع أن تسهم في إفشال الإجراءات الأمريكية المعقدة داخل العالم الإسلامي والرامية إلى تهدئة الحماس الديني اللاهب.
    والتهديد الوحيد الآن في أعقاب التراجع السوفيتي في الشرق الأوسط على المصالح الأمريكية هو الإسلام المتطرف، ولا يقتصر التهديد الإسلامي على المصالح الأمريكية فقط؛ بل يتجاوزها إلى تهديد الأنظمة العربية أيضاً، والولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بنشر ثورة إسلامية جديدة في أي دولة عربية من الدول ذات الأهمية الكبيرة.
    والأمريكيون يعتبرون الانتفاضة بمثابة خطر يهدد المنطقة العربية بأسرها، وخصوصاً من حيث الطابع الإسلامي المشارك فيها بشكل واسع وعلى أرضية تراجع المد الشيوعي ''.
    وبعد أن ذكر أن التصلب الإسرائيلي يفسد الخطة الأمريكية لاحتواء المعتدلين وضرب المتطرفين قال:
    ''لقد بدأت مفاوضات في عمان بين منظمة التحرير والإخوان المسلمين بتشجيع المعتدلين حول انضمام حركة حماس إلى المجلس الوطني الفلسطيني مع الموافقة على برنامج المنظمة السياسي الذي يربط جميع الحلول السياسية بالاعتراف بإسرائيل''
    ورغم الستار الكثيف المسدل حول تلك الاتصالات إلا أنه اتضح أن الشروط التي تطالب بها حماس ليست سهلة، فهي ترفض برنامج المنظمة السياسي، وفي نفس الوقت تطالب بالتمثيل في مؤسسات المنظمة بنسبة (40%).
    يضرب الكاتب أمثلة لبعض الشخصيات المعتدلة، كما أن صورة مقابلة بعضهم لـكارتر منشورة في نفس الصحيفة ثم يقول:
    ''وقد شاءت "سخرية الأقدار" -هكذا!- أن يكون الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر هو أول من يؤيد مطالب حماس خلال الجولة الأخيرة التي قام بها في الشرق الأوسط، فقد نشرت صحيفة المحرر الباريسية مقطعاً من الحوار الذي أجراه كارتر مع الرئيس السوري حافظ الأسد حين سأله الأسد عن موقف الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالحركات الإسلامية، فرد كارتر... واشنطن تأمل أن تحظى الحركات الإسلامية -الإخوان المسلمون- على نصف الأصوات خلال الانتخابات التي ستجرى في المناطق المحتلة''
    ويعلل كارتر ذلك بأنه سيدفع مسيرة السلام مع إسرائيل، ويُعلِّق الصحفي ذاكراً الفروق بين منظمتي حماس والجهاد بالنسبة للغرب وإسرائيل.
    ثم يقول:
    ''ومنظمة التحرير لن تقبل بأي حال من الأحوال مطالب حماس بمنحها (40%) من المقاعد في مؤسساتها، كما أن إعلان كارتر بأن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد مطلب حماس سيثير الكثير من الخواطر وردود الفعل الشديدة في أوساط المنظمة، غير أن الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن هناك تقارباً فعلياً بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة، وحماس لا تحرص على إخفائه، كما أن تجديد العلاقة بين دول عربية والاتحاد السوفييتي ، حينما سيحدث يمكنه أن يُحدث تحولاً دراماتيكياً في العلاقات بين الفلسطينين والوطنيين العلمانيين والإخوان المسلمين، ويمكننا القول: إن الأمريكيين يرمون في خطواتهم إلى تغيير الوضع الراهن في المناطق المحتلة ودفعه باتجاه تهدئة الانتفاضة، ويعتبرون هذا التغيير بمثابة أساس مركزي في استراتيجيتهم الهادفة لتقليص الحماس الثوري الإسلامي''
    وقد نشرت جريدة الحياة بتاريخ السبت 20/8/ 1410هـ على لسان كارتر عقب زيارته لـسوريا:
    ''لقد اتفقت مع حافظ الأسد "يعني: أيام رئاسته" على إعطائه الجولان، وأنه لا حق لـإسرائيل فيها، ولكن بشرط أن تكون منزوعة السلاح، وأن يعيش البلدان في سلام دائم وآن الأوان لأفي بوعدي''
    وتتضمن خطة كارتر الاعتراف لـإسرائيل بجنوب لبنان، وإنهاء مشكلة الضفة الغربية بإيجاد حكومة تحالف فلسطينية مع المنظمة وحماس تعترف بإسرائيل ويعترف بها الغرب، واستبعاد منظمة الجهاد لتطرفها، وقيام تحالف استراتيجي بين سوريا وإسرائيل تمهيداً لقيام دولتي إسرائيل الكبرى وسوريا الكبرى على أنقاض العراق والأردن ولبنان، وترى بعض الأوساط بعد أزمة الخليج أنه يمكن بقاء العراق على أساس شروط قاسية وتكون التركيبة هكذا :
    1- لبنان دولة مستقلة ترتبط بعلاقات مميزة مع سورية.
    2- فلسطين دولة مستقلة ترتبط بعلاقات مميزة مع إسرائيل.
    3- الكويت دولة مستقلة ترتبط بعلاقات مميزة مع العراق.
    أي وضع كيانات صغرى تحت كيانات كبرى تكون هي الأخرى ضمن منظومة الحلف الدولي الذي تتزعمه أمريكا.
    وبالنسبة للاتحاد السوفييتي نجد أنه اتجه مع المسار نفسه ولكن من زاوية أخرى، ففي عهد إعادة البناء وعلى يد جورباتشوف حصلت إسرائيل على "أكبر صفقة بشرية في التاريخ" إنهم مليون يهودي جرى ترحيلهم من الاتحاد السوفييتي لا إلى حيث يريدون؛ بل إلى إسرائيل بالذات، منهم على أقل تقدير: مائة ألف إما مجندون أو جاهزون للتجنيد، وقد عادت العلاقات بين إسرائيل وأوروبا الشرقية.
    ونشرت جريدة ليموند على لسان بعض الإسرائيلين البارزين:
    ''إن عودة العلاقات بين إسرائيل ودول أوروبا الشرقية هو بمثابة العودة إلى قطاع من العالم تربطه بإسرائيل منذ وقت طويل روابط عاطفية وثقافية وروحية قوية ومتعددة''
    وذكر أن "أوروبا التي تضرب في أعماقها جذور الشعب اليهودي هي أوروبا الشرقية لا الغربية"!!
    وليس سراً أن نقول: إنه بعد التغييرات في أوروبا الشرقية حصل اليهود على مناصب عليا في دولها أكثر مما كانوا عليه أيام الحزب الواحد، وبعد أزمة الخليج اجتمع قطبا الوفاق فيما سمي "قمة هلسنكي" وتناقلت كافة الوسائل الإعلامية أنباء عن قيام حلف دولي جديد تشترك فيه دول المنطقة، وقد علَّق جورباتشوف قائلاً:
    ''إن أزمة الخليج هي اختبار لقدرة النظام العالمي الجديد على حل مشاكل العالم، وأكد أن هذا العالم يدخل مرحلة جديدة لِما بعد الحرب الباردة، وأضاف أنه لولا مالطا ولولا واشنطن -يقصد زيارته الأخيرة لـأمريكا وكامب ديفيد- لكُنَّا الآن في وضع صعب ونحن نواجه أزمة الخليج، وحقيقة كوننا اتخذنا موقفاً مشتركاً يعني أننا نسير في الطريق الصحيح".
    ومن جهته أكد بوش تماسك الوفاق الدولي، وأن موقف صدام لن يجعلنا ننقسم على أنفسنا، -على حد تعبيره- وهنا نورد ما جاء في مقابلة مع الأمير سعود الفيصل عمَّا تأمله المملكة من قمة هلسنكي حيث قال:
    "إن تنفيذ قرارات مجلس الأمن هي السبيل الأضمن لنزع فتيل الانفجار عن المنطقة وتجنيبها مضاعفات حرب مدمرة، وإن المملكة العربية السعودية التي ربطتها وشائج عميقة بـالعراق على مستوى القيادة والدولة والشعب وشاركته السراء والضراء طيلة ثماني سنوات حريصة كل الحرص على أن لا يمس العراق الشقيق أي ضرر".
    وعند سؤاله عن فكرة الحلف العربي والدولي قال:
    ''إن المسئولين في أمريكا نفذوا ذلك، لكن ما حصل من أحداث يجعل التفكير في نظام الأمن الدولي حاضراً ومستقبلاً مسألة حيوية، ويجب أن يتركز هذا المنظور على فكر دول المنطقة نفسها، خاصة وأن مسألة الأمن القومي نوقشت في قمة بغداد، والمفترض الآن أن يوفر العرب لأنفسهم في إطار جامعة الدول العربية الأسس والقواعد الكفيلة لقيام هذا النظام''.
    وعن الوفاق وقمة هلسنكي نشرت جريدة الحياة بتاريخ السبت 3 ربيع الأول 1411هـ كتب صلاح الدين حافظ نائب رئيس تحرير الأهرام الدولية مقالاً مهماً بعنوان:
    هل تمت الصفقة الكبرى في هلسنكي؟ وكان مما قال:
    ''وأخيراً انفجرت أو فجَّرت أزمة الخليج المرسومة أو طبقاً للسيناريو البارع الذي جرى إعداده وتجهيزه من قبل.... ما الجديد إذاً في الصفقة؟ وما هي تأثيراتها على العرب عموماً والخليج خصوصاً؟
    بداية نقول -من باب التسجيل والتذكير- أن يد أمريكا في معظم أرجاء الوطن العربي كانت مطلقة منذ سنوات، تعود بدايتها إلى عام 1947م، الجديد أن أمريكا لم تعد تخشى رد الفعل السوفييتي العنيف- سياسيا أو عسكرياً كما كانت تخشاه قبل 10 سنوات إذا ما تحركت عسكرياً، الجديد أن الاتحاد السوفييتي لم يعد يلعب دوراً منافساً أو مناهضاً للنفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة العربية ولم ي1002622عد يخشى وجوداً عسكرياً أمريكياً أو غربياً كثيفاً في المنطقة كالحشد الهائل للأرمادا، الموجود الآن...
    الآن تتحدث واشنطن علناً وبأشد درجات الصراحة والوضوح عن خطتها لإقامة ترتيبات أمنية في المنطقة ترقى إلى درجة "الحلف" على نموذج حلف الأطلسي -كما قال كل من بيكر وتشيني وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين في الأسبوع الماضي- بحجة ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، وحتى لا يتكرر غزو جديد كغزو العراق للكويت، ومع ذلك وعلى الرغم من صراحة كلماته المعبِّرة عن وضوح الخطط الأمريكية وأهدافها لم ينفعل الاتحاد السوفييتي أو يرتعد، ولم يرفض العرب أو حتى يتململوا... إن تغيرت كل الأشياء، وكان مفتاح التغيير في يد الرئيس العراقي صدام حسين الذي أقدم على فتح الباب واسعاً أمام رياح التغيرات الطارئة !
    فهل كان صدام حسين بقراره الطائش باغتيال الكويت واحتلالها ودمجها تحت الدعاوى التاريخية مدركاً لكل ذلك، ضالعاً في سيناريو المتغيرات، مشاركاً في اللعبة، أم كان ضحية السذاجة السياسية والتفكير البدائي الذي يتحكم في معظم سياسيي المنطقة، ويوجه قراراتهم ويتحكم في أمزجتهم المتقلبة؟!!
    قد يبدو التساؤل ساذجاً، لكن المؤكد أن تفجير الصراع في الخليج منذ الثاني من آب -أغسطس- الماضي لم يكن اعتباطاً ولا رمية طائشة في بحر ساكن، الأرجح عندي أن اللعبة متكاملة القواعد والأهداف، ومحدودة الأساليب والوسائل، سواء كان صدام حسين ضالعاً متواطئاً أو كان ساذجاً مخدوعاً فهو في الحالتين قام بالدور وأدى المهمة، وفتح الباب أمام الأرمادا التي لم تأت بهذه الكثافة إلى المنطقة إلا لتبقى طويلاً طويلاً طويلاً -هكذا كررها الكاتب كثيراً-.
    ستبقى طويلاً سواء اشتعلت الحرب أو لم تشتعل، سويت الأزمة سلمياً اليوم أو طال بها الزمن -كغيرها- ودخلت في مراحل البيات الشتوي، ستبقى الآن إعادة تركيب المنطقة في المقياس الأمريكي تحتاج إلى إعداد طويل، وجهد مكثف، وإقناع صعب، ومن لم يقتنع طوعاً، يقتنع بالضغط والتأديب، ساعة تحتاج المسألة إلى قمع وتأديب!!
    ''سواءً ارتكب الجميع جيافة الحرب أو استسلموا لإغراء تجميد الموقف على حاله، فإن الأزمة التي فجرها غزو العراق للكويت ستطول؛ لأنها أزمة تحول استراتيجي عالمي وليست مجرد أزمة عسكرية عاجلة أو مؤقتة بين طرفين محدودين؛ ولأنها وقعت في منطقة لها أهميتها الجيوبوليتيكية التي لا تخفى على أحد، إلا على أصحابها النائمين في بحور العسل، عفواً في بحور الوهم...''.
  5. بيان الموقف الأوروبي من النظام الجديد

    ونختم موضوع الوفاق ببيان الموقف الأوربي من الحلف أو النظام الدولي الجديد فنقول:
    (لقد حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على تطويق الاتحاد السوفييتي والعالم الإسلامي بسلسلة من الأحلاف العسكرية والسياسية منها حلف " الناتو" الذي يشمل أوروبا الغربية، وحلف "السنتو" الذي شمل دول الشرق الأوسط).
    عقب إلغاء حلف بغداد وحلف "السياتو" الذي يشمل دول جنوب شرق آسيا، وحلف "الريو" الذي يشمل دول أمريكا اللاتينية، والهدف الأمريكي الآن -بعد انهيار حلف وارسو- هو دمج هذه الأحلاف وزيادة ضمن منظومة واحدة تتقنع بستار الأمم المتحدة، وتتحكم فيها أمريكا وفق النظام الجديد، وأهم طرف في هذا النظام هو حلف الناتو بطبيعة الحال).
    فما موقف الحلف وأوروبا خاصة من الخطط الأمريكية التي عرضناها؟
    يمكن الإجابة باختصار شديد بأن الدول الأوروبية ومن خلال التوجيه الأمريكي قد سلكت الخطوات نفسها، فقد قررت أوروبا الغربية عقب حظر النفط المذكور وبالتحديد في اجتماع أركان دول الحلف في مطلع عام 1980م.
    ''إن الخطر الأساسي على الغرب لا يقع في أوروبا، بل في المناطق النفطية الحيوية وخطوط المواصلات إليها''
    وجاء على لسان وزير الدفاع البريطاني:
    ''إن منطقة الخليج هي من أهم مناطق العالم، وهدفنا الأساسي يجب أن يكون إعادة الاستقرار إليها'' .
    وقامت دول أوروبا بتشكيل قوات تدخل سريع على غرار القوات الأمريكية، بل إن فرنسا قد شكلتها عام 1977م، أما بريطانيا فقد احتفظت بلواء"جرذان الصحراء" منذ الحرب العالمية الثانية.
    وقد قامت داخل الحلف دعوات مختلفة إلى توسيع رقعة الحلف ليشمل المنطقة العربية، ومن أبرز هذه الدعوات فكرة إيجاد قوات تدخل غربية مشتركة تنفصل قيادياً عن الناتو، وتشتمل على عناصر غير أوروبية من اليابان واستراليا وغيرهما وذلك تفادياً للإشكالات الدستورية داخل الحلف. .
    وبعد الأزمة وفي شهر صفر 1411هـ اجتمع المجلس الأوروبي في بروكسل وقرر إقامة نظام أمني يشمل الرقعة الممتدة من إيران حتى موريتانيا!!
    - وإجمالاً تتفق كل المصادر على أن القوات الأوروبية تقوم بدور المساندة للقوات الأمريكية، وأن مغزاها السياسي هو الأهم، وبعد أزمة الخليج، تم تجاوز العقبات الدستورية حتى إن ألمانيا عدَّلت دستورها للسماح بالمشاركة في القوة الدولية، وبالفعل وصل إلى المملكة وبقية دول الخليج حتى الآن ما يزيد على 50.000 جندي أوروبي!!
    وقد صرَّح وزير الدفاع الأمريكي في 30/2/1411هـ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أغلقت 150 قاعدة في أوروبا نهائياً ونقلتها إلى الخليج بعد أن ظلت هناك 45سنة.
    وعندما سُئِل عن مدَّة بقاء القوات في السعودية قال:
    ''لسنا على استعداد أن نأتي كل 10 سنوات لحل مشكلات المنطقة وأضاف أن ذلك مرهون باستقرار المنطقة'' !
    كما أطلق بيكر وزير الخارجية تصريحات مماثلة، منها ما نشر في جريدة الشرق الأوسط في 13/2/1411هـ، وأعقب هذا إعلان بوش عن إرسال 150 ألف جندي أمريكي آخرين إلى السعودية إضافة إلى ربع المليون الذين وصلوا من قبل متذرعاً بالحجة نفسها (ضمان الردع والاستقرار).
    ومن العجب أن يجري هذا ويزداد الموقف الأمريكي تصلباً مع الإعلان عن تراجع العراق ولين موقفه، ومع تعاطف فرنسا وروسيا -التظاهري- معه، واستبعادهما لفكرة الحرب دون اعتراضهما على الحشود العسكرية الهائلة!!
    إنها أدوار موزعة والضحية واحدة!!
  6. سؤال لأصحاب الفضيلة

    وهنا نسأل أصحاب الفضيلة:
    أمن أجل استعادة الكويت أو إعانة السعودية يتم كل هذا؟
    أمن أجل اختلاف العراق والكويت على الحدود توضع خارطة جديدة للمنطقة من إيران حتى موريتانيا، خارطة عسكرية واقتصادية وسياسية، وتسحب الجيوش من أوروبا وتوطن في هذه المنطقة؟
    أم أن ذلك جرى وفقاً لمقتضيات النظام الدولي الجديد الذي رسمت صورته قبل غزو العراق بسنتين وتحت ستار استقرار المنطقة؟
    ثم ألا ترون أن الحملات الإعلامية بين دول المنطقة، وافتعال المشكلات، وتضخيم المؤامرات المتبادلة، يصب نحو الهدف الأمريكي، أعني عدم استقرار المنطقة، يُعطي الغرب المبرر للبقاء طويلاً لضمان استقرارها بزعمه؟
    وإذا كان كذلك فما دوركم مع علماء المسلمين الآخرين في هذا؟
    وكيف ترون الحل؟ وهل يسع علماء الإسلام السكوت وأمتهم تنحدر إلى الهاوية؟
    وهل يليق بعلماء الإسلام أن ينقسموا بحسب حكوماتهم، فيفتي علماء الدول المستعينة بالكفار بجواز الاستعانة، ويفتي علماء الدول المخالفة لذلك بتحريمها؟ وألف وخمسمائة مليون مسلم يتساءلون: الحق مع من إذاً؟
    وقد تسألونني عن تصوري لهذا النظام وهذه الترتيبات الأمنية، فأقول:
    إن الغرب يبني أموره عادة وفق خطط ذات احتمالات عدة، ويحسب الحساب للمفاجآت وما يجدّ في صعيد الواقع، وعليه يصعب التحديد الدقيق المجزوم به، لكن نستطيع استنتاج الملامح العامة والأهداف الكبرى، ومنها:
    1- سحق أي قوة إقليمية في المنطقة سواءً كانت قوة عسكرية كـالعراق، أو اقتصادية كدول الخليج، أو سكانية كـمصر، وفق خطط مرسومة وبإجماع غربي مستتر بالإجماع الدولي.
    2- ربط دول المنطقة ضمن منظومة تحالف أمني قد يشمل إيران وتركيا وباكستان.
    فقد صرحت مصادر استراتيجية أمريكية أن "سياسة العمودين" لم تعد كافية حتى مع تغيير العمودين الحاليين إلى العمودين المقترحين "سوريا وإسرائيل" وأن المستقبل سيشهد سياسة "القوس الكبير" الممتد من باكستان حتى مصر إن لم يصل إلى موريتانيا كما عبَّر بعضهم، وهذا القوس يدمج مع الوضع النهائي الذي سيكون عليه حلفا وارسو والناتو بشكل ما، أي: سيكون مرتبطاً بالتحالف الغربي عامة وتحت الهيمنة الأمريكية خاصة.
    - فأما إسرائيل فهي حليف استراتيجي قديم، وهي مع مقتسمي الغنيمة لا مع الضحايا، وسوف تظل محتفظة بكل قوتها حتى الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، بل سوف تكون مستودعاً آمناً للمعدات العسكرية الغربية مع إتاحة الفرصة لها لاستخدام الأسلحة نفسها.
    وأما تركيا فقد أعلنت أنها بصدد إعادة تقييم استراتيجيتها العسكرية باعتبارها عضواً في الناتو، لكي تصبح الأولوية موجهة إلى الشرق الأوسط بدلاً من الاتحاد السوفييتي، ومع أن في تركيا ما يقارب 20 قاعدة لحلف الناتو ملأى بأحدث ما توصلت إليه التقنية الأمريكية من أجهزة الرصد والإنذار والاتصال والطائرات، بل وحتى المستودعات النووية (كما نشرت الحياة في 29 شعبان 1410هـ).. إلخ، فقد تضاعف الوجود الأمريكي فيها بعد الأزمة بالذريعة نفسها "تطويق العراق، وقام رئيسها بنشاط ملحوظ في الأزمة وما يزال، ويحرص الغرب على إثارة مشكلة مياه الفرات بينها وبين العراق وسوريا لتظل المنطقة غير مستقلة أيضاً.
    وأما إيران التي لا يماثلها في مفاجآتها السياسية إلا صدام، فقد فاجأ رئيسها العالم في خطبة الجمعة المشار إليها سالفاً (في أول شهر شعبان 1410هـ) بالموافقة على جدول أعمال السلام مع العراق، والإقرار بحقوق العراق، ومنها حق استخدام الخليج ثم انتقد مواقف القوى الكبرى من محادثات السلام واصفاً إياها بأنها مواقف متضاربة، وقال:
    ''من ناحية تريد هذه القوى استمرار حالة السلام والحرب لتبرير وجودها العسكري وتواصل مبيعات الأسلحة للمنطقة، ولكن من ناحية ثانية إن منطقة الخليج الغنية بالنفط مهمة إلى درجة أن وجود نار مشتعلة تحت الرماد فيها يثير قلق القوى الصناعية الكبرى''
    فهي إذاً على علم باللعبة الدولية، وصلحها مع العراق يأتي ضمن أطماعها من الغنيمة، ولذلك أعلن وزير دفاعها أن حكومته خصصت 10 مليارات دولار في السنوات الخمس القادمة لتحديث الجيش الإيراني لمواجهة ما أسماه "التغييرات الجارية ولا سيما في البلدان المجاورة"!!
    إنها بداية تشكيل القوس خلفاً لحلف بغداد!!
    لكن ليست المشكلة هنا فحسب، بل لها جانب آخر خفي أشارت إليه بعض المصادر الأمريكية أثناء أحداث أذربيجان، حيث تحدثت عن تفكيك الامبراطورية السوفيتية مقترحة ضم المناطق الشيعية إلى إيران، وضم المناطق السنية إلى تركيا، وضم أفغانستان إلى باكستان!!
    فإذا ضممنا هذا إلى عمود التحالف الذي يراد إنشاؤه وبين دول الخليج وأمريكا من جهة وبين عمود التحالف الآخر (مصر وإسرائيل وسورية) من جهة أخرى، وضممنا إليه ما نادى به بعض مخططي السياسة الأمريكية من إعطاء إيران الثورة الأفضلية بدلاً من العراق ودول الخليج (كما ورد في الخيارات السابقة ص:26) مستندين في قولهم إلى أن مناطق النفط تسكنها غالبية شيعية.
    إذا تصورنا ذلك أدركنا خطراً كبيراً يهدد المنطقة في حالة تدمير العراق وإحلال التحالف الشيعي محله إيران-سوريا- العراق الذي سيصبح دولة شيعية بعد فصل الأكراد، ثم بقية المناطق الخليجية كـالبحرين والإمارات وشرق السعودية- والوجود الشيعي واضح فيها، ولا ننسى أن نذكر أن كثيراً من الناطقين بالعربية في جنوب تركيا من النصيرية أيضاً، أما باكستان فكثير من قادة جيشها الكبار شيعة ومعهم إخوانهم القاديانية والبريلوية).
    إنها مصيبة عظمى لو أصبح هذا القوس الكبير قوساً رافضياً يهودياً توجهه الصليبية الغربية المتحالفة.
    وهنا يجب على علمائنا الكرام تنبيه وسائل إعلامنا إلى الخطر الرافضي القادم، وبيان فداحة الخطر الذي تقع فيه عندما تؤيد المعارضة العراقية الرافضية وتسميها المعارضة الإسلامية، وتصف آيات ضلالها بأنهم علماء الإسلام في حين تهاجم بلا هوادة جبهة السودان وجبهة الجزائر وأمثالها من الحركات الإسلامية التي مهما أخطأت فهي لا تقارن بخطر الرافضة!!
    إن الرافضة هم أولياء اليهود والنصارى في قديم الدهر وحديثه، ولا أظن الغربيين إلا قد أدركوا الفرق بينهم وبين أهل السنة جيداً، وأخشى -لا قدَّر الله- أن نصحو على امبراطورية مجوسية تمتد من الهند إلى مصر!!
    أما إن صحونا الآن فسنقطع عليهم الطريق بإذن الله.